فصل: تفسير الآيات (13- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (119- 123):

{إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا ناساً عصمهم الله عن الاختلاف فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه {ولذلك خَلَقَهُمْ} أي ولما هم عليه من الاختلاف فعندنا خلقهم للذي علم أنهم سيصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق ولم يخلقهم لغير الذي علم أنهم سيصيرون إليه، كذا في شرح التأويلات {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} وهي قوله للملائكة {لأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لعلمه بكثرة من يختار الباطل.
{وَكُلاًّ} التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل: وكل نبأ وهو منصوب بقوله {نَقُصُّ عَلَيْكَ} وقوله: {مِنْ أَنْبَاء الرسل} بيان لكل وقوله: {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدل من {كلا} {وَجَاءكَ في هذه الحق} أي في هذه السورة أو في هذه الأنباء المقتصة ما هو حق {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} ومعنى تثبيت فؤاده زيادة يقينه لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب {وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} من أهل مكة وغيرهم {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها {إِنَّا عَامِلُونَ} على مكانتنا {وانتظروا} بنا الدوائر {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله تعالى من النقم النازلة بأشباهكم {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} لا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما فلا تخفى عليه أعمالكم {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} فلابد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك فينتقم لك منهم. {يُرجع} نافع وحفص {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك وكافلك {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وبالتاء: مدني وشامي وحفص، أي أنت وهم على تغليب المخاطب. قيل: خاتمة التوراة هذه الآية وفي الحديث: «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى».

.سورة يوسف:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}
{الر تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين} {تلك} إشارة إلى آيات هذه السورة، و{الكتاب المبين} السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب، أو التي تبين لمن تدبَّرها أنها من عند الله لا من عند البشر، أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم، أو قد أبيِّن فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف عليه السلام، فقد رُوي أن علماء اليهود قالوا للمشركين: سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا} أي أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف عليه السلام في حال كونه قرآناً عربياً، وسمي بعض القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على كله وبعضه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا معانيه {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته} [فصلت: 44] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} نبين لك أحسن البيان. والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها عن الزجاج، وقيل: القصص يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص نقول: قص الحديث يقصه قصصاً، ويكون فعلاً بمعنى مفعول كالنفض والحسب، فعلى الأول معناه نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان} أي بإيحائنا إليك هذه السورة على أن يكون {أحسن} منصوباً نصب المصدر لإضافته إليه والمقصوص محذوف لأن {بما أوحينا إليك هذا القرآن} مغن عنه. والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب فإنك لا ترى اقتصاصه في كتب الأولين مقارباً لاقتصاصه في القرآن. وإن أريد بالقصص المقصوص فمعناه نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسن لما يتضمن من العبر والحكم والعجائب التي ليس في غيره. والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه كما يقال: (فلان أعلم الناس) أي في فنه، واشتقاق القصص من قص أثره إذا تبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ} الضمير يرجع إلى {ما أوحينا} {لَمِنَ الغافلين} عنه (إن) مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية يعني وإن الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الجاهلين به.

.تفسير الآية رقم (4):

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)}
{إِذْ قَالَ} بدل اشتمال من {أحسن القصص} لأن الوقت مشتمل على القصص أو التقدير: أذكر إذ قال: {يُوسُفَ} اسم عبراني لا عربي إذ لو كان عربياً لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف {لأَبِيهِ} يعقوب {يَاأبَتِي} {أبتَ} شامي وهي تاء تأنيث عوضت عن ياء الإضافة لتناسبهما، لأن كل واحدة منهما زائدة في آخر الاسم ولهذا قلبت هاء في الوقف. وجاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر كما في رجل ربعة، وكسرت التاء لتدل على الياء المحذوفة. ومن فتح التاء فقد حذف الألف من (يا أبتا) واستبقى الفتحة قبلها كما فعل من حذف الياء في (يا غلام) {إِنّى رَأَيْتُ} من الرؤيا لا من الرؤية {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} أسماؤها ببيان النبي عليه السلام: جريان والذيال والطارق وقابس وعمودان والفليق والمصبح والصروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين {والشمس والقمر} هما أبواه أو أبوه وخالته والكواكب إخوته. قيل: الواو بمعنى (مع) أي رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. وأجريت مجرى العقلاء في {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} لأنه وصفها بما هو المختص بالعقلاء وهو السجود وكررت الرؤيا لأن الأولى تتعلق بالذات والثانية بالحال، أو الثانية كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له كأن أباه قال له: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين أي متواضعين وهو حال، وكان ابن ثنتي عشرة سنة يومئذ وكان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة أو ثمانون.

.تفسير الآيات (5- 6):

{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}
{قَالَ يَا بَنِي} بالفتح حيث كان. حفص {لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ} هي بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، وفرق بينهما بحر في التأنيث كما في القربة والقربى {على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ} جواب النهي أي إن قصصتها عليهم كادوك. عرف يعقوب عليه السلام أن الله يصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الإخوة. وإنما لم يقل فيكيدوك كما قال: {فيكدوني} [هود: 55] لأنه ضمن معنى فعل يتعدى باللام ليفيد معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمن فيكون آكد وأبلغ في التخويف وذلك نحو (فيحتالوا لك) ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر وهو {كَيْدًا إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة فيحملهم على الحسد والكيد.
{وكذلك} ومثل ذلك الاجتباء الذي دلت عليه رؤياك {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} يصطفيك، والاجتباء الاصطفاء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض جمعته {وَيُعَلّمُكَ} كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو يعلمك {مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي تأويل الرؤيا، وتأويلها عبارتها وتفسيرها وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا، أو تأويل أحاديث الأنبياء وكتب الله وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى ءالِ يَعْقُوبَ} بأن وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة أي جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكاً، ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة. وآل يعقوب أهله وهم نسله وغيرهم، وأصل آل أهل بدليل تصغيره على (أهيل) إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر، يقال آل النبي وآل الملك ولا يقال آل الحجام، ولكن أهله، وإنما علم يعقوب أن يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالاً بضوء الكواكب فلذا قال: {وعلى آل يعقوب} {كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ} أراد الجد وأبا الجد {إبراهيم وإسحاق} عطف بيان ل {أبويك} {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} يعلم من يحق له الاجتباء {حَكِيمٌ} يضع الأشياء في مواضعها.

.تفسير الآيات (7- 9):

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)}
{لَّقَدْ كَانَ في يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي في قصتهم وحديثهم {ءايات} علامات ودلالات على قدرة الله وحكمته في كل شيء. {آية} مكي {لّلسَّائِلِينَ} لمن سأل عن قصتهم وعرفها، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب، وأسماؤهم: يهوذا وروبين وشمعون ولاوي وزبولون ويشجر وأمهم ليا ليان، ودان ونفتالي وجاد وآشر من سريتين زلفة وبلهة، فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف.
{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىَّ أَبِينَا مِنَّا} اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة، أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابت لاشبهة فيه. وإنما قالوا {وأخوه} وهم إخوته أيضاً لأن أمهما كانت واحدة، وإنما قيل {أحب} في الاثنين لأن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث، ولابد من الفرق مع لام التعريف وإذا أضيف ساغ الأمران. والواو في {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} للحال أي أنه يفضلهما في المحبة علينا وهما صغيران لا كفاية فيهما ونحن عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقه، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ} غلط في تدبير أمر الدنيا ولو وصفوه بالضلالة في الدين لكفروا. والعصبة العشرة فصاعدا {اقتلوا يُوسُفَ} من جملة ما حكى بعد قوله {إذ قالوا} كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال: لا تقتلوا يوسف وقيل: الآمر بالقتل شمعون والباقون كانوا راضين فجعلوا آمرين {أَوِ اطرحوه أَرْضًا} منكورة مجهولة بعيدة عن العمران وهو معنى تنكيرها وإخلائها عن الوصف ولهذا الإبهام نصبت نصب الظروف المبهمة {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه، وجاز أن يراد بالوجه الذات كما قال: {ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 27] {وَتَكُونُواْ} مجزوم عطفاً على {يخل لكم} {مِن بَعْدِهِ} من بعد يوسف أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو من بعد قتله أو طرحه فيرجع الضمير إلى مصدر (اقتلوا) أو (اطرحوا) {قَوْمًا صالحين} تائبين إلى الله مما جنيتم عليه أو يصلح حالكم عند أبيكم.

.تفسير الآيات (10- 12):

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)}
{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} فإن القتل عظيم {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} في قعر البئر وما غاب منه عن عين الناظر. غيابات وكذا ما بعده: مدني {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق {إِن كُنتُمْ فاعلين} به شيئاً {قَالُواْ يأَبَانَا مالك لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لناصحون} أي لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونشفق، عليه وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم وفيه دليل على أنه أحسن منهم، بما أوجب أن لا يأمنهم عليه {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ} نرتع نتسع في أكل الفواكه وغيرها والرتعة السعة {وَيَلْعَبْ} ونلعب نتفرج بما يباح كالصيد والرمي والركض. بالياء فيهما مدني وكوفي، وبالنون فيهما: مكي وشامي وأبو عمرو، وبكسر العين: حجازي من ارتعى يرتعي افتعال من الرعي {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} من أن يناله مكروه.

.تفسير الآيات (13- 15):

{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)}
{قَالَ إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} أي يحزنني ذهابكم به واللام لام الابتداء {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون} اعتذر إليهم بأن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة وأنه يخاف عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب} اللام موطئة للقسم والقسم محذوف تقديره والله لئن أكله الذئب. والواو في {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي فرقة مجتمعة مقتدرة على الدفع للحال {إِنَّا إِذَا لخاسرون} جواب للقسم مجزئ عن جزاء الشرط أي إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها، وأجابوا عن عذره الثاني دون الأول لأن ذلك كان يغيظهم.
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ في غَيَابَةِ الجب} أي عزموا على إلقائه في البئر وهي بئر على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام، وجواب {لما} محذوف تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى، فقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة وضربوه وكادوا يقتلونه فمنعهم يهوذا، أرداوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم فيحتالوا به على أبيهم ودلوه في البئر، وكان فيها ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي وكان يهوذا يأتيه بالطعام. ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فأخرجه جبريل وألبسه إياه {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} قيل: أوحي إليه في الصغر كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهما السلام. وقيل: كان إذ ذاك مدركاً {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} أي لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنك يوسف لعلو شأنك وكبرياء سلطانك، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواع فوضعه على يديه ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وأنكم ألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس، أو يتعلق {وهم لا يشعرون} ب {أوحينا} أي آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة ولا يشعرون بذلك.

.تفسير الآيات (16- 18):

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاء} للاستتار والتجسر على الاعتذار {يَبْكُونَ} حال عن الأعمش لا تصدق باكية بعد إخوة يوسف، فلما سمع صوتهم فزع وقال ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما بالكم وأين يوسف؟ {قَالُواْ يا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي نتسابق في العدو أو في الرمي. والافتعال والتفاعل يشتركان كالإرتماء والترامي وغير ذلك {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} بمصدق لنا {وَلَوْ كُنَّا صادقين} ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا؟! {وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته. رُوي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوا القميص بدمها وزل عنهم أن يمزقوه، ورُوي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القيمص، فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم، من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل: كان في قميص يوسف ثلاث آيات كان دليلاً ليعقوب على كذبهم {وألقاه على وجهه فارتد بصيراً} ودليلاً على براءة يوسف حين قد من دبره. ومحل {على قميصه} النصب على الظرف كأنه قيل: وجاؤا فوق قميصه بدم {قَالَ} يعقوب عليه السلام {بَلْ سَوَّلَتْ} زينت أو سهلت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} عظيماً ارتكبتموه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل وهو ما لا شكوى فيه إلى الخلق {والله المستعان} أي استعينه {على} احتمال {مَا تَصِفُونَ} من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه.